٤ – الصمود: كيف تجاوزت شركة عقارماب أزمة كورونا

هذه التدوينة جزء من سلسلة تتحدث عن كيفية تجاوز عقارماب لأزمة الكورونا، أنصح ببدأ القراءة من تدوينة المقدمة. 

قبل أن نتطرق لموضوع تسريح أي عضو من أعضاء فريق العمل، بدأنا في تقليص جميع التكاليف الأخرى. تم إيقاف ميزانية التسويق تماماً، وتم تقليل حجم سيرفرات الاستضافة، وبدأت شخصياً رحلة التفاوض مع جميع مزودي الخدمات لعقارماب إبتداءاً بالشركات التي ندفع لها عشرات الآلاف من الدولارات شهرياً وإنتهاءاً بالشركات التي ندفع لها مبالغ زهيدة تصل إلى ٥٠ أو ٢٥ دولار. الحقيقة أن معادن الشركات التي نتعامل معها تجلت خلال الأزمة، شركات عملاقة مثل Facebook, Google, and Amazon لم تتعاون معنا بتاتاً ولم تبدي أي نوع من أنواع التعاطف أو الدعم. بينما شركات أخرى مثل Github و Jira و Sendgrid و RTB و Criteo وغيرها من الشركات استجابت لمطالبنا بتخفيض فواتير مستحقه. الحقيقة أني كنت أطمح بشكل رئيسي على مسح فواتير لم ندفعها بعد وليس تأجيلها، لأن التأجيل يؤجل المشكلة ولا يحلها، وبعض من هذه الشركات فعلاً تفاعلت مع مطالبنا إيجابياً.

هناك شخص يجب أن أذكره بالأسم هنا وهو الحاج علي صاحب العقار الذي يقع فيه مقرنا الرئيسي في مدينة نصر، حيث كان ضمن الأشخاص الذين تواصلت معهم لأن قيمة الإيجار الشهري الذي ندفعه شهرياً كبير، وبالرغم من أنه تفاجئ حيث أني قبل بضعة أسابيع كنت أحاول إقناعه بالسماح لنا بالتوسع إلى أدوار علوية والآن نطلب منه خفض الإيجار. لكن الحاج علي فعلاً كان شخص غاية في الذوق والاحترام والتفهم، وقد عرض مبدئياً تأخير دفع الإيجارات، لكني رفضت خوفاً من تكدس الديون على الشركة، وطلبت منه الإتفاق على إيجار مخفض وبعد إنتهاء الأزمة نعود للإيجار الأصلي بدون أي مسؤولية عن المبالغ التي تم خصمها، وبصراحة تفهم الموقف وتفهم خوفي من الديون خصوصاً أنه لم يكن من السهل توقع مدة الأزمة. والنقطة الأخيرة التي سأشكره عليها دائماً هي كرمة، وجدعنته، ووقوفه معي ومع شركتي موقف الرجال، حيث أبدى في الأول إمكانية تخفيض الإيجار بنسبة ٢٠٪ لكن بسبب الوضع الصعب طلبت منه تخفيض ٧٥٪ من إيجار الشركة، وهو رقم كبير جداً، لكنه وافق عليه بالرغم أنه لم يكن مجبر على ذلك، واستمرينا بدفع الإيجار بشكل منخفض على عدة شهور ومن ثم بدأنا برفعه بشكل تدريجي. الحقيقة أنه كانت هناك فرق كبير بين موقف الحاج علي، الرجل المصري الأصيل، وموقف شركات أجنبية تدعي النبل وأنها موجودة لحل مشكل العالم، ولكنها عند الجد مجرد شركات رأسمالية تبحث عن الربح ولا تفهم أي لغة أخرى. الحزين والمؤسف أني لم أقابل الحاج علي بعد هذا الموقف الذي لن أنساه له أبداً، حيث أنه توفى مؤخراً، فأسأل الله أن يغفر له ويرحمه، واسألكم أن تدعو له بالمغفرة والرحمة، وأتمنى أن تظل ذكراه خالده كرجل مصري أصيل تربى على الخير والكرم. 

بالرغم من قدرتنا على تخفيض تكاليف الشركة بسرعة، حيث أذكر أني في شهر أبريل كانت تكلفة التسويق في عقارماب بالسالب، وذلك لأننا وقفنا جميع النشاطات التسويقية وكانت هناك فواتير مستحقة الدفع، لكن بعض الشركات التي نتعامل معها وافقت على إلغاء هذه الفواتير، كتقدير ووفاء لسنوات من العلاقة التجارية بيننا، وبالتالي أصبح تكلفة التسويق بالسالب. لكن في نفس الوقت الذي كنا نخفض فيه التكاليف، حصل ما كنا نخشاه، وانخفضت إيرادات عقارماب في شهر أبريل بشكل حاد بنسبة ٦٠٪، وبدأنا نعيش الأزمة، وكان لا بد من إتخاذ إجراءات أخرى لإنقاذ الموقف.

عدنا للموضوع الأهم وهو كيف سنتعامل مع خفض تكلفة المرتبات، في ظل ضغط نقدي شديد على ميزانية الشركة، وأيضاً ضغط من مجلس الإدارة عليا بأن أتخذ القرار الصحيح والبعيد عن العواطف. وبصراحة أعتقد أن أفضل حل وصلنا له هو أن نتبع مبدأ استعرته من تجربة شركات في أمريكا وهو أن لا يتم تسريح أي عضو من أعضاء الفريق، وأيضاً لا نعطيهم إجازات غير مدفوعة وإجبارية لأن هذا الفكرة من وجهة نظري كأنت الأسوء والأكثر نفاقاً. من يريد إجازة بدون مرتب؟ هي هروب من المسؤولية ولعب بالمسميات. التوجه الذي وجدت له قبول في نفسي ووافقني عليه الفريق الإداري هو تحويل جميع أعضاء فريق العمل إلى دوام جزئي، حيث يتم احتساب المرتب بحسب دوام الشخص، فالشخص الذي يعمل دوام كامل، يحصل على مرتب كامل، والذي يعمل نصف دوام يحصل على نصف مرتب، وكان هدفي أن أحقق رغبة مجلس الإدارة والمساهمين ويتم تخفيض تكلفة المرتبات بالنصف بهذه الآلية. بقى لدينا قرار صعب وهو كيف نختار مدة الدوام لكل شخص؟ بالقسم؟ بالأسبقية؟ بالاحتياج؟ بالأداء؟ القرار لم يكن سهلاً بتاتاً.

قررنا أن نشرك فريق العمل معنا ونسمع رأيهم، بدأت باجتماع عن طريق زووم وضعت فيه مقدمات عن موقف الشركة بكل صراحة وشفافية، ومن ثم ارسلنا لجميع الموظفين استبيان فيه تفاصيل دقيقة عن وضع الشركة وتركنا لهم الاختيار، وبصراحة كان موقف فريق عقارماب مشرف جداً، حيث أجمع ٨٠٪ من أعضاء الفريق أن لا نقوم بالتفرقة نهائياً، وأن يسري نظام واحد على الجميع، واختار الفريق أن يتحول الجميع إلى نظام جزئي ٥٠٪، وكان هذا الحل هو الأفضل فعلاً وتم تطبيقه فوراً. مع بدأ شهر مايو واستمرار تدهور الإيرادات بشكل أكبر، أضطررت لإرسال استبيان اخر للقيادين في الشركة فقط وعرضت عليهم الموقف وخطورته وعرضت عليهم خيارين: نخفض ساعات عمل الشركة كلها إلى ٣٣٪ أو نحافظ على الفريق عند ٥٠٪ ولكن كقياديين ننزل إلى ٢٥٪. مرة أخرى فاجئتني بيئة عمل عقارماب بالرد، واختار القيادين الأيثار في ظل ظروف مادية حساسة كان يعاني منها الجميع. أذكر أني كنت دائماً أسأل سؤال في آخر الاستبيان، وهو كيف تقيم قدرة الإدارة على التعامل مع الأزمة، ففي الاستبيان الأول كانت الردود إيجابية، أما في الاستبيان الثاني كانت ردود القيادين شديدة، وكنت ممتن لصدقهم في التعبير عن الموقف وفي نفس الوقت لتضحيتهم بدخلهم مقابل الحفاظ على دخل بقية فريق العمل والذين عادة ما تكون مرتابتهم أقل بطبيعة الحال. لن أنسى صعوبة النوم ليلة استلام نتائج هذا الاستبيان، وقررت في الأخير أن يبقى الفريق عند ٥٠٪ والقياديين عند ٣٣٪ وأنا كرئيس الشركة عند ٢٥٪. الأجمل أن عدة شباب وشابات في الشركة أرسلوا لي طلبات أيقاف مرتباتهم تماماً مع استمرار عملهم بدوام كامل والبعض أخذ أجازة بدون مرتب فقط لتخفيض العبء على الشركة، مواقف لن أنساها أبداً، وسأظل أذكر هؤلاء من الشباب والشابات بالإسم دائماً.

المهم هنا ليس فقط رأي الشباب واختياراتهم، وإنما روحهم وتعاملهم مع الموقف. حرفياً لم أجد أي تذمر أو شكوى، الجميع كان يعلم أن الموقف صعب، والجميع كان يعمل بكل ما لديه من طاقة، وروح القتال التي طالما تحدثنا عنها في الشركة برزت بوضوح، وبيئة العمل التي استثمرنا فيها لسنين طويلة كانت طوق النجاة الذي حافظ على الشركة وجعل أفراد فريق العمل يتماسك ويحافظ على الكيان الذي بنوه معاً على مدى السنين. 

نقطة مهمة يجب التطرق إليها هنا وهيا أننا حاولنا كفريق إداري البحث عن كيفية إدارة الأزمات على الإنترنت، وبالرغم من أنه لم يكن هناك محتوى مناسب لوضع الكورونا إلا أن هناك علم موثق عن كيفية إدارة الأزمات الصعبة الشبيهة، والحقيقة أستفدت شخصياً مما كتبه الكثير في مدوناتهم أو على مواقع متخصصة، وبصراحة لهذا أكتب دائماً لأني أستفيد من الغرب وأحزن دائماً أننا كعرب نستهلك ولا ننتج محتوى كافي، ولو أن هناك تحسن، لكننا نحتاج للمزيد. المهم، أهم النقاط التي أكد عليها الجميع هو أنه يجب أن يكون هناك تواصل واضح وصريح ومستمر مع فريق العمل، ولا يمكن للقيادة الاختباء في هذا الوقت، أو تحميل القرارات الصعبة على أطراف أخرى أو أقسام أخرى مثل شؤون الموظفين. لهذا كنت أجري اجتماعات زووم دورية مع جميع أعضاء فريق العمل، وكانت الاجتماعات صريحة جداً وتوضح بالضبط موقف الشركة وما أتوقعه خلال الفترة القادمة. لم تكون الاجتماعات إيجابية أو حماسية، كانت محبطة، لكنها صريحة وحقيقية، والفريق قدر هذا الوضوح كثيراً. أيضاً كنت أرسل إيميلات شهرية فيها توضيح وتحديث لموقف الشركة، مع وجود أسئلة وإيجابات عن مختلف المواضيع. هذا الوضوح ساعد كثيراً في إدارة الأزمة، والحفاظ على معنويات فريق العمل. 

كان ضمن التحديات التي لاحظتها في بداية الأزمة أيضاً هو أني بدأت أسمع أراء مختلفة ومخاوف من أن فريق العمل قد لا يقبل وقد لا يتعاون. لهذا، من أهم القرارات التي اتخذتها في هذه الفترة هو أني حملت المسؤولية الكاملة عن ما يحدث عليا شخصياً وبشكل منفرد، وأخبرت جميع أعضاء فريق العمل أن جميع القرارات التي تصدر هي قراراتي شخصياً، وقد تمت باستشاره رؤوساء الأقسام، ولكن مديرهم المباشر غير مسؤول وغير مشارك في القرار، وأن فريق شؤون الموظفين أيضاً غير مسؤول، وأن أي شخص لديه أي أسئلة أو مشكلة يتواصل معي بشكل شخصي ومباشر عن طريق واتساب. كان هدفي هنا هو إعفاء المدراء المباشرين وشؤون الموظفين عن الحرج من القرارات الشديدة التي اتخذناها، وأيضاً التواصل المباشر مع الجميع لفهم الموقف بدون أي تأثير أو تجميل أو تهويل أو تغيير من قبل المستويات الإدارية التي بيني وبين فريق العمل. ولا انكر أني استغليت علاقتي القوية مع فريق العمل، ومعرفتي أنه يمكن أن يدعموا القرارات بشكل أكبر إذا كانت من عندي كمؤسس بالمقارنة مع إذا كانت قرارات من قسم شؤون الموظفين مثلاً. 

طبعاً، خلال هذه الفترة قدم بعض أعضاء الفريق استقالتهم لأسباب خاصة أو لوجود فرص جديدة، وبالرغم من أنه لم يكن أسهل اختيار، أضطررنا لقبول استقالاتهم لتخفيف الأعباء المالية عن الشركة. من القرارات التي ألوم نفسي عليها قليلاً هو أن بعض الموظفين تم الاستغناء عن خدماتهم بسبب أداءهم، حيث أن لدينا نظام ينهي عمل الشخص إذا لم يحقق أهداف معينة، والحقيقة أني كنت أعلم أنه من الصعب جداً تحقيق الأهداف في ظل ظروف الأزمة، وكان يمكن أن نقوم بعمل بعض الاستثناءات لبعض الأشخاص إلا أن الضغط المالي كان شديد جداً ولم استطع أن أسمح لأي استثناءات، لهذا اعتذر لكل من تأثر بهذه النقطة ولم يشعر بالتقدير والتعاون من قبلي. 

ولا يمكن أن أنهي هذه التدوينة بدون أن أتقدم بشكر خالص مليئ بالامتنان والتقدير لكل عضو من أعضاء فريق عقارماب ساهم في تمكين الشركة من تجاوز هذه الأزمة، سوءاً كان الشخص لايزال معنا في عقارماب أو قرر أن يخوض تحدي جديد، وأخص بالذكر الفريق الإداري المكون من عبده وأية وطارق وميس وعمرو، وأيضاً جميع القياديين الذين أثبتوا أنهم فعلاً مثال يقتدى به بالفعل والعمل وليس بالكلام فقط. 

أخيراً، أتذكر أن أحد القيادين سألني قبل عدة سنوات لماذا استثمر كل هذا الوقت والمال في بناء بيئة عمل مميزة، وكان يشعر بأنها مضيعة وقت ودلع وكلام فاضي، وبصراحة لوهلة شكيت في نفسي وشعرت أنه ربما يكون على حق، ولكن ما حصل في سنة ٢٠٢٠ كان دليل كبير أن كل الكتب التي كتبت عن أهمية بناء بيئة عمل صحية كانت على حق. شاهدت نتيجة هذا الكلام اللطيف على أرض الواقع عندما تحولت بيئة عمل عقارماب لبساط سحري حمل الشركة وساعدها على تجاوز أزمة أودت بالكثير من الشركات المحلية والعالمية. شكراً فريق عقارماب.

تدوينات السلسلة: 

– المقدمة
١- التوقيت 
٢- الاستعداد
٣- الصدمة 
٤- الصمود (هذه التدوينة)
٥- التعافي 
٦- النمو  
٧- دروس مستفادة

6 تعليقات على “٤ – الصمود: كيف تجاوزت شركة عقارماب أزمة كورونا”

  1. أعتقد أن من أفضل القرارات التي حدثت في عقارماب هو عدم تسريح فريق العمل و اختيار طريقة العمل بدوام جزئي.

    مواقف معظم فريق العمل كانت موفقه في هذه الفترة جدا.

    أتمني لكم المزيد من النجاح و التوفيق، و المزيد من إدراك أهمية تقدير فريق العمل و تحسين البيئه التي يعمل بها 🙂

اترك رداً على إسراء إبراهيم إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *