قصص من أمريكا – موزع الجرائد

أول عمل حصلت عليه عندما هاجرت إلى أمريكا هو محاسب (كاشير) في محطة بترول، ولعل هذا العمل كان سبب رئيسي لتحطيم الصورة التي رسمتها هوليود في مخيلتي عن المجتمع الأمريكي، وأيضاً كان السبب في التزامي وتمسكي بالدين. ففي هذا العمل قابلت مختلف فئات المجتمع الأمريكي، رجال الأعمال، موظفين، طلاب، عاطلين، وحتى المتشردين. لكن من بين كل القصص والحوداث التي مرت علي، تبقى قصة موزع الجرائد أكثرها تأثيراً علي وهي القصة التي أفضل سردها لكل من يصل إلى أمريكا متحمساً لاهثاً وراء التأمرك دون أن يدرك الاختلافات الثقافية والاجتماعية الشاهقة بيننا وبينهم.

في الحقيقة، لا أستطيع أن أتذكر اسم ذلك الرجل المسن الذي كان يتردد على المحطة في فجر كل يوم، لكنه رجل في الخمسينات أو الستينات، مرح وبشوش، يمر على المحطة فجر كل يوم ليأخذ كوب قهوة قبل أن يبدأ بتوزيع الجرائد على عدة شركات، لديه سيارة بيك أب بيضاء كبيرة وحديثة يستخدمها في عملة. كان يمزح معي دائماً ونقضي حوالي ٥ أو ١٠ دقائق في الحديث معاً عن مواضيع مختلفة، كان يسليني لانه يأتي في وقت مبكر لا يوجد فيه أي زبائن آخرين.

أذكر في إحدى الأيام أنه جاء وكنت قد تأخرت في إنجاز مهامي في العمل، وكنت قلق لأن صاحب المحطة قد يصل قبل أن أكمل مهامي، فكان أمامي تجهيز عدة ساندوتشات للزبائن، وتعبئة الثلاجات بالعصائر، ومسح الأرض، وتعبئة أكياس الثلج، وتنظيف الحمامات، وتكنيس الشارع المقابل للمحطة.. إلخ. وجاء صديقي المسن وبدأ يمزح معي، لكني أبديت له بعض الجدية لكي يفهم بأني لا أستطيع أن أقضي معه بضع دقائق كالعادة للمزاح والحديث عن أمور مختلفة، ولكنه صدمني عندما قال كيف يمكنني مساعدتك؟ حاولت إقناعه ولكنه أصر، وبدأ تعبئة أكياس الثلج معي (وهذه هي أصعب مهمة في الحقيقة، خصوصاً في الفجر عندما يكون الجو بارداً). ارتحت لهذا الرجل كثيراً وبعد هذا الموقف زاد احترامي له من تواضعه وتعاونه.

استمرت صداقتنا، ولكنه فجأة اختفى لمدة شهر تقريباً، وبعدها زارني في أحد الأيام ماشياً غير راكباً، فسألته أين كان وأين سيارته، فأخبرني بأنها تعطلت، وأنه يحاول إصلاحها لكي يواصل العمل، وأخبرني بأن لديه مشاكل عائلية وأن زوجته تريد تركه وأن بنته قد غادرت المنزل مع صديقها. تعاطفت معه، شرب القهوة عندي وحاولت المزاح معه لأسلي عليه لكنه كان مكتئباً، ثم غادر.

غاب صديقي فترة أطول هذه المرة، وعندما زارني مرة أخرى، كان منظره غير لائق، ملابسه كانت متسخه، ويداه مسودتان، فسألته ما الذي حصل، أخبرني بأن زوجته اشترت منه سيارته وأصلحتها وغادرت المنزل، وأنه الآن وحيداً بدون عائلة، وأنه فقد وظيفته لأنه لا يملك سيارة، وأن صاحب المنزل قطع عنه الكهرباء لأنه لم يسدد الفواتير فأصبح يطهو طعامه بالشمع مما جعل يداه مسودتان. كان يكلمني بحرقه، اشتريت له القهوة هذه المرة وحاولت مساعدته قدر الإمكان، لكنه غادر.

بعد بضعة أيام، عاد لي صديقي المسن وهو متشرداً. فقد منزله، فقد عائلته، فقد وظيفته، فقد ماله، فقد جاهه واحترامه في المجتمع، حزنت عليه كثيراً. سألته عن أصدقائه وعائلته وجيرانه، هل يمكن أن يساعده أحد، أخبرني بأن الكل يبتعد عنه ويعتبره فاشلاً، صدمني هذا الشيء كثيراً فلم أكن أعرف تقاليد هذا المجتمع بعد. عرضت عليه أن يأتي معي إلى المسجد لكنه رفض أن يكون عالة علي، فهو يدرك بأن وضعي كان صعباً كطالب وعامل بسيط، حاولت مساعدته، ثم غادر.. صدمني هذا الموقف !

بعد أيام، وصلت على الباص العمومي إلى أمام المحطة، نزلت من الباص وبدأت المشي إلى المحطة، ولاحظت أن هناك شجار أمام بوابة سوبر ماركت المحطة. كان هناك شابين يمنيين يعملان معي في المحطة يتشاجران مع رجل متشرد. بدأت أصواتهم بالارتفاع وأنتهى الموقف بأن قام أحد الشباب بدفع الرجل المسن المتشرد بقوة فأنقلب على ظهره وسقط على الأرض وتلطخت ملابسه المتسخة ببقعة مياه كانت على الأرض. فقام وهو غاضباً، وصاح أنا رجل محترم، أنا شخص لي وقار، أنا لست متسكع، أنا لست متشرد، أنا إنسان محترم! ركضت بإتجاههم صائحاً وناهراً لزميلي، ولكنه أخبرني بأن هذا المتشرد كان يطوف داخل المحطة لمدة طويلة، وكان يبدو عليه أنه يحاول سرقة شيء ما فطرده. حاولت اللحاق بهذا الرجل المسن المتشرد – صديقي – ولكنه دفعني بكبرياء مجروح وظل يردد وهو مبتعداً عنا: أنا رجل محترم، أنا لست متسكع، أنا لست سارق، أنا لست متشرد، أنا إنسان محترم.. غادر.. ولم أره بعدها !

19 تعليقا على “قصص من أمريكا – موزع الجرائد”

  1. تذكرني هذه القصة بقصة ted williams
    http://www.dispatch.com/live/content/local_news/stories/extras/2011/goldenvoice/index.html
    و التى افهم منها ان امريكا هي بلد الاحلام ,
    ولكن من قصتك يظهر مقدار البؤس و المعناه التى قد يعنيها اي شخص فقط بسبب انه فقد مصدر رزقه , وهنا تكون امريكا بلد الكوابيس.
    عز القبيلي بلاده , ولو تجرع وباها

    على فكره اسلوبك بسيط ورائع ,

  2. wow… that’s a powerful story, not shocking though, your perception of it is interesting though, and I like your writing style. good luck. mind you asking, what are you doing now? are you still working there? how did it turn out to be with you?

  3. أنا رجل محترم، أنا لست متسكع، أنا لست سارق، أنا لست متشرد، أنا إنسان محترم.. غادر.. ولم أره بعدها !

    الحلم الأمريكي !!

  4. “دون أن يدرك الاختلافات الثقافية والاجتماعية الشاهقة بيننا وبينهم” ..

    في هذه القصة, لا أرى أي إختلاف ثقافي ولا إجتماعي, الناس يعرفوك بجيبك, كان الله في عون الجميع 🙂

  5. ناصر، حالياً.. أنا في مصر أعمل على مشروعي الخاص، وقد تركت أمريكا قبل بضعة أيام فقط 🙂 كانت تجربتي هناك رائعة وقد استفدت علمياً وعملياً ولكني لم استطع التعايش مع المجتمع أو التجانس مع ثقافته.

    مصطفى، لا أدري أين تعيش يا عزيزي، لكن في بلادي أجزم بأن الأهل والأصدقاء والجيران لن يتركوك في مثل هذا الموقف.

  6. صراحة موقف مؤثر جداً
    الحمدالله على نعمة الإسلام
    ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” هذه هي سياستنا الإسلامية
    لا أقول أنه لا يوجد فقراء في بلادنا, لكن توجد أخلاق تمنع أي كان أن تتركه زوجته وأبنته وأن يشرد رجل عجوز

  7. أستغرب أستاذ عماد, لماذا لم تأخذه إلى المسجد -كما كنت تريد- دون أن يعلم, فأنا أجزم أن أهل المسجد كانوا ليجمعوا له مالا يدر عليه ولن يكون مديونا لأحد…
    أخشى أنه الآن أصبح من المجرمين…
    يحز في نفسي أنك لم تحصل ولو على عنوانه أو رقم هاتف تسأل عنه عبره…

  8. قصة مؤثرة ورائعة ولا تحدث في امريكا فقط بل ايضا تحدث هنا استاذ عماد وفي العالم كله.

    تحدث مثل هذه القصص وبكثرة لان المال اصبح كل شيء في هذا الزمان.

    هذا رأيي والله يوفقك.

  9. و الله يا عزيزي حتى في مجتمعاتنا اصبحت الاوضات تقترب لما يجري في اريكا للاسف ، في لحظات الضعف الاغلب راح يتخلى عنك

  10. لا حول ولا قوة إلا بالله، قصة محزنة فعلاً ونحن بحاجة فعلاً لعدد من هذه القصص التي تبين خبايا المجتمع الأمريكي.

    لكن للأسف ولكي لا نضع أنفسنا في قصر عاجي بعيداً، فقد بدأ داء المادية يغزوا مجتمعاتنا الإسلامية شيئاً فشيئاً، ويوماً بعد يوم يجد الإنسان نفسه وحيداً بين أهله وجيرانه، لكن وبحمد الله لدينا دين الإسلام يحمينا إن شاء الله إن تمسكنا به..

  11. .. فعلاُ ان الفرق شاسع بين الثقافات.
    اعتقد ان اغلب الشباب في العالم العربي يعتقدون امريكا مجرد ارض تمطر فيها السماء دولارات صباحاً مساءً .. وان الحياة هناك ربما تكون افضل هناكمن اوطانهم.
    اعتقد ان الانسان في امريكا ربما يدعي احترام الانسان والحيوان من باب العمل بالقانون حرفياً ولكن المسميات التي نعرفها نحن العرب كالكرم والشهامه والمرؤه والغيره .. الخ , وغيرها لا وجود لها الا اذا نص القانون الامريكي عليها .. “رغم اننا قد تغيرنا قليلاً”
    اتمنى ان ندرك حقيقة انفسنا فالانسان هو من يصنع نفسه سواء هنا ام هناك ..

    اخيراً اعجبني ماتكتبه استمر ولا تطول .. بالغيبه

  12. السلام عليكم 🙂

    أخ عماد أنا حصل لي الشرف بلقائك في اليمن ولو لم يتم بيننا الموعد بسبب عودتك لأمريكا 🙂

    ما أقصده في موضوعي أنك تركز على أن الشباب مخدوعين بالغرب وأن الغرب لا يملك مثقال ذرة من ما نتخيله, هم بالأخير بشر مثلنا ولنا ولهم المحاسن والمساوئ, لكن في نظري أنك لا تستطيع تعميم الشر المطلق على مجموعة كأن تقول الأمريكيين بخلاء والأوروبيين غدارين وهكذا, في المقابل نفس الشي بالنسبة للخير, لا نقول أن العرب كرماء إلا من باب المديح وحث الناس على الكرم 🙂 لكن إذا جئنا للواقع, نفسي نفسي, أقل شي واقعي أنا =)

    موفقين إخواني,, دمتم بود …

  13. الحلم الامريكي، يركز على جوانب معينة ويضخمها اعلاميا جدا حتى ترسخ في ذهن الناس وكأن من يسافر لأمريكا سيكنس الذهب عن الأرصفة

    نمط الحياة الرأسمالي قاسي جدا لكنه مربح جداً.. وهذه هي اللعبة أن تركز على جانب الربح وتنسى القسوة

  14. لم ينتبه احد لما خلف مشكله الرجل
    هروب ابنته
    وهجر زوجته
    تعطلت السياره وقد تحتاج الى بضع دولارات لتصليحها
    اشترت السياره منه وغادرته وكان بامكانها تصليحها
    واو على راي الامريكان
    واصبح هو على قارعه الطريق
    بلا منزل او عنوان
    تفكك اسري محض
    حدثني هندي صديق انفصل عن زوجته وحين سال ابنه عن رايه
    قال من سوف يوصلني للمدرسه
    حتى من يكون من اصول شرقيه وتربى على عادات معينه
    حين يكون هنالك عندهم تتطبع اخلاقه بهم الا طبعا من رحم الله
    امريكا ليست جنة الارض
    وان كانت كذلك من ناحيه القوانين لكنها ليست كذلك في القانون الانساني
    افضل الكرم العربي على ما فيه من علات على القانون الانساني الجائر

  15. انا عندى بعض التعليقات
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    1 امريكا مفيهاش حاجة اسمها (جدعنة ) و هى انك تساند غيرك و تساعده
    2 كله ماشى بمصلحته بس و محدش بيفضل حد على نفسه (الايثار)
    3 امريكا ممكن تكون جنة للناس اللى رايحة تتفسح او بمعنى أصح للى معاه فلوس و ممكن تكون جحيم للى رايح على امل انه يبنى نفسه هناك
    4 القصة حزينة جدا و مؤلمة و لما قرأتها حسيت انى بتفرج على فيلم اجنبى درامى بالفعل يا أستاذ عماد اسلوبك فى الكلام ادخلنى داخل القصة
    5 مدونة اكثر من رائعة 🙂

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *