التنازل في المفاوضات: ربح أم خسارة

تعلمت فنون التجارة والمبايعة والتفاوض منذ الطفولة فتجار اليمن كغيرهم من التجار العرب معروفين ببراعتهم في البيع والشراء، لهذا كان علي أن أتعلم حيلهم وأساليبهم لكي أحصل على أفضل سعر. استفدت من هذه الفنون التجارية كثيراً عند تأسيس أول مشاريعي الريادية، ولكني لاحظت مؤخراً أنها سبباً من أسباب عدم نجاح بعض محاولاتي التجارية. سأسرد لكم قصة حصلت لي توضح قصدي.

في إحدى محاضرات مادة فنون التواصل والتفاوض، تم تقسيم الطلاب إلى فرق مكونة من 4 أشخاص، في كل فريق مدير وموظف ومراقبين. يحصل المدير على ورقة فيها تفاصيل عرض الشركة للموظف (راتب، مكافئات، مدة الدوام.. إلخ)، ويحصل الموظف على تفاصيل طلباته (الراتب المطلوب، التأمين الصحي، إلخ). أما المراقبين فعملهم هو تسجيل ملاحظات عن أداء المدير والموظف، والجميل في الأمر أن أهداف المدير المسجلة في الورقة تختلف عن أهداف الموظف مما يجبر الطرفين على التفاوض ومحاولة الوصول إلى إتفاق. كان دوري هو دور المدير، ودور زميلي النرويجي هو دور الموظف، والهدف الذي عرضه البروفسور لنا هو تحديد من الشخص الذي يستطيع تحقيق أكبر عدد من النقاط.

بدأ الحوار، ولاحظت بأن النرويجي صارم جداً وغير متفهم وهدفه فقط هو ربح النقاط، وكان يبتسم بسخرية كلما أعرض عليه عدة خيارات، ويكتفي باختيار أكبر نتيجة.. فمثلاً ورقتي توجهني بأن أحاول أن أقنعه بأن يكتفي بإجازة لمدة شهر واحد، بينما هناك خيار آخر هو شهرين، فعندما أسأله، يجيب مباشرة: شهرين. لاحظت نقطة ضعفه وهي عدم إنتباهه لتوجيهات ورقته واكتفاءه بطلب أفضل نتيجة، فبدأت أتلاعب بعروضي له، فمثلاً ورقتي توضح بأن الراتب يمكن أن يكون 20ألف، 40ألف، أو 60 ألف، والورقة توضح بأني أحصل على أكبر عدد من النقاط إن استطعت إقناعه بـ 20ألف، لهذا تلاعبت بالأرقام وعرضت عليه الراتب بالشكل التالي: 5 ألف، أو 10ألف، أو 20ألف.. وطبعاً لثقته الزائدة بنفسه ولذكاءه الحاد طلب 20ألف مباشرة.. بينما لو راجع ورقته لوجد أنها تطلب منه الحصول على 40 ألف على الأقل. المضحك في الأمر، أني كنت أبدي امتعاضي أمامه لكي يستمر في أسلوبه ولا ينتبه لحيلتي. المهم، أنتهى البرنامج، وبدأ الحوار، وطلب البروفسور من المراقبين عرض ملاحظاتهم على الجميع، فأبدأ زملائي الأمريكان إعجابهم بصرامة ووضوح وجدية النرويجي وقدرته الفائقة في الحصول على أكبر كم من النقاط، ونصحوني بأن أزيد من ثقتي بنفسي وألا أرضى بكل ما يتم عرضه لي، فأكتفيت بالإبتسامه 🙂

في النهاية، قام البروفسور بجرد النقاط ليعلن المفاجئة للجميع وهي حصولي على أكبر عدد من النقاط، ولا يمكنني أن أشرح لكم كيف أحمر وأخضر وجه النرويجي المسكين، وكيف تفاجئ الأمريكان بالنتيجة، واكتفيت بالإبتسامة وكلي فخر في الإنجاز الذي حققته بدهاءي العربي. ولكن سرعان ما زال فرحي حينما أعلن البروفسور أن الفريق الفائز هو فريق آخر. فعامل الفوز الحقيقي هو ليس عدد النقاط التي يحصل عليها الفرد، وإنما مجموع نقاط المدير مع الموظف، وللأسف على الرغم من كثرة نقاطي كانت نقاط النرويجي ضئيلة جداً.. في البداية رفضت النتيجة، وحاولت الدفاع عن موقفي، فقلت: موظفي النرويجي سعيد جداً ويظن بأنه كسب الدنيا وما فيها، وأنا سعيد أيضاً، وكلانا لم يتنازل عن شيء، ما المشكلة؟

المشكلة هي أن هناك طرف مظلوم في عملية التفاوض، وحتى لو اقتنع الطرف المظلوم في لحظة الإتفاق، فإن الإتفاق لن يدوم طويلاً. عندما فكرت في الموضوع قليلاً، أتفقت مع البروفسور، فعاجلاً أم آجلاً سيكتشف الموظف بأنه مظلوم عندما يقارن راتبه مع غيره، أو سيجد فرصة أفضل وسيتركني. سببت هذه المحاضرة في تغيير وجهة نظري في المفاوضة، وبدأت أقدم تنازلات للطرف الآخر، ليس لأني غير قادر على الحصول على نصيب الأسد، وإنما لأني أريد أن أترك له حافز كافي يجبره على مواصلة العمل معي. أتمنى أن نستفيد جميعاً من هذه النقطة، فلا شك بأن العرب مبدعين في التجارة والمفاوضة، ولكن تقديم التنازلات هو أفضل طريقة لضمان استمرارية الإتفاق ونجاح العلاقة أو الشراكة التجارية.

10 تعليقات على “التنازل في المفاوضات: ربح أم خسارة”

  1. نحن العرب لا نعلم شيئاً عن مفهوم win-win، و كل ما نريده هو الربح على حساب الطرف الآخر حتى لو تضمن ذلك أذية أو ألم للطرف الآخر!

    أتمنى أن نصل إلى ذلك اليوم الذي يحب أحدنا لأخيه ما يحبه لنفسه.

    و شكراً على المقالة.

  2. رائع جدا يا عماد ، استفدت كثيرا أيضا من هذه التجرية و كأنني حضرت معكم الدرس ، فشكرا لك من القلب.
    في الحقيقة ، أعتقد أننا نحن العرب ظالمين جدا في قضية المفاوضات ، و هذا يؤثر على أمور أخرى ، مثلا عندما تذهب لغسيل سيارتك ، يقول لك عشرين ريال ، تقول له أنا أغسلها برى بريالين ، و تنسى أن الذي يغسلها بريالين هو حرفي بسيط مسكين يحتاج لقمة عيشه ، و لأنه يعمل أكثر من حرفة في اليوم الواحد و ليس محترفا لمهنة غسيل السيارة و تنظفيها ، فستخرج من عنده سعيد بأنك وفرت نقودك ، و تنسى أن سيارتك ما تزال متسخة ..

    شكرا مرة أخرى..

  3. أبدعت عزيزي.

    فعلا هذه نقطة لم اتنبه لها إلأا من خلالك.
    فوز اللحظة ليس مهما بقدر أن تربح العلاقة والعملية كاملة

    قد تكون مشكلتنا أننا نخشى أن نظهر بمظهر المهزومين و المغلوبين على أمرهم فنظلم (أو نُظلم) ممن لديهم نفس عقدنا النفسية

    بالتوفيق يا تاجر 🙂

  4. الموضوع هو win-win وهو الشكل الوحيد الذي يضمن الاستمرارية في اي علاقة تبادلية. وهذه عموما احدى صيغ العدل وهي قيمة اخلاقية غير ان القيم الاخلاقية في جوهرها تضمن البقاء والازدهار للمجموع. مثلا الاحتكار يضمن نصيب الاسد لشركة لكنه مرفوض اخلاقيا فعلى المدى الطويل يدمر الاحتكار بنية المجتمع المالية. وهكذا لابد الا نفصل البيزنس عن الاخلاق لانها في النهاية تصب في مصلحة البيزنس وانا ارى ان هذا اتجاه متزايد.

  5. اراهن على هده نقطة التنازلات توفر للموضف عملا مريحا و للمدير طاقة و نشاط و مردودية اكثر فاءن كان موضف غير مقتنع بوضيفته و يعمل فقط لانه لم يجد غيرها يكون يائسا و عمله مملا و لا يكترث بشيء كما مدير لايكثرت بوضع الموضف المادي و تكون مردودية الشغل سيئة , تجربة رائعة و تعطي انطباع حقيقي لنجاح غرب في حياتهم العملية لان هدا جانب بتاع تنازلات لايوجد عند العرب للاسف تشكر ع تدوينة رائعة

  6. موضوع ممتاز فالتفاوض فن وهو يدخل في جميع حياتنا اليومية وليس فقط في التجارة بل يشمل جميع نواحي الحياة التجارية والسياسية والاجتماعية … الخ.
    ولا يعني التنازل في وقت المفاوضات الخسارة بل قد يكون نجاح للشخص المتنازل خاصة اذا كان لتنازلة هذا مآرب اخري سوف يحققها في المسقبل ولا يعلم عنها الطرف الاخر، وفي نفس الوقت قد يكون التنازل خسارة في حالات مثلا عندما يكون شخص ما في حاجة ماسية لشئ معين( مادي او معنوي) فتتفاوض مع شخص اخر ويكون هذا الاخير يعرف مدي حاجتك اليه فيحاول ان يصل بك الى الطريق الذي هو يريده ويستغل حاجتك فتجبر لمسايرته وتتنازل له.
    وبشكل عام ليس كل شخص قادر علي التفاوض ذلك ان هذا الاخير يحتاج الى الخبرة وان يكون الشخص اجتماعي.
    وشخصيا انا اعرف الاخ عماد وهو ما شاء الله متفاوض ممتاز.

  7. السلام عليكم

    أؤيد كلام أخي وائل

    وأشهد أنا أيضا بأن عمادا متفاوض ممتاز ولين الجانب

    بارك الله فيكم جميعا

اترك رداً على محمد شدو إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *