مقتطفات من سنغافورة

زرت سنغافورة مؤخراً، ودونت بعض الملاحظات عن هذه الدولة المتطورة وما بها من مميزات وعيوب يمكن أن نستفيد منها. أعتقد أن تعاملي المتواصل مع شركات التطوير العقاري واحتكاكي مع مخططات التطوير المدني التي تقوم بها الحكومات العربية جعلني أركز بشكل كبير على الفرق بين التطوير المدني في سنغافورة وفي الوطن العربي.

– نظافة المدينة كان ملحوظ جداً، وقد وصلتني أخبار نظافة سنغافورة قبل أن أزورها، لهذا كنت أحاول أن اكتشف كيف تم تحقيق هذا المستوى من النظافة. مما لاحظته أن الحكومة أوكلت مسألة النظافة لعدة شركات من القطاع الخاص تتنافس على تغطية مناطق مختلفة، حيث كنت أشاهد عربات نظافة تقوم بتنظيف الشوارع باستخدام الماء المضغوط الذي يقوم بتنظيف دقيق للشوارع. معظم الدول العربية توكل مسؤولية النظافة لجهات حكومية، والكل يعلم مدى جودة العمل الحكومي، وقد لاحظت أيضاً أن بعض الدول العربية بدأت تعتمد على شركة خاصة، ولكن عادة تكون شركة واحدة تفوز بمناقصة النظافة للمدينة كلها، ولكن الأفضل أن يكون هناك تنافس بين عدة شركات، بحيث تحاول كل شركة زيادة جودة خدمتها بحيث تحصل على عقود أكبر من المنافسة، كما ستحاول كل شركة تخفيض أسعارها بشكل أكبر والمستفيد هو المواطن وميزانية الحكومة أيضاً. من المفارقات التي واجهتها بخصوص النظافة هو أني زرت حي اسمه “الهند الصغيرة” وهو حي يكتض بالهنود وقد كان الحي الوحيد الذي وجدت شوارعه الرئيسية بعيدة كل البعد عن نظافة بقية المدن، لهذا يبدو أن الحل لا يقتصر على الحكومة وشركات التنظيف بل أن للمواطن دور مهم في نظافة مدينته.

– المواصلات في المدينة كانت في غاية الفعالية، نظام القطارات فعال جداً وقد استخدمته بكل سهولة، وهو شبية بقطار دبي إلا أن خطوطه أكثر بكثير وتساعدك في الوصول إلى معظم الوجهات في المدينة. أيضاً، كان هناك باصات نقل تبدو جيدة جداً لكني لم استخدمها، وقد أثار إستغرابي رخص تكلفة التكاسي ووفرتها كوسيلة تنقل سريعة، حيث أني كنت أتوقع أن تكون أسعارها عالية جداً، لكني وجدتها أرخص بكثير من بعض الدول التي زرتها. ضف إلى ذلك أن المدينة بالكامل مصممة لتخدم الدراجات الهوائية وأيضاً المشاه، فتقريباً لم أجد أي شارع لا يوفرة ممر مشاه منظم ونظيف، وفي حالة عدم وجود ممر للمشاه عادة ما يكون هناك نفق أو جسر للمشاه يساعدهم على التنقل من مكان إلى آخر. ويبدو أن هيئة تنظيم المواصلات اهتمت كثيراً بتقليل عدد السيارات في الشوارع فالمشهد السائد في سنغافورة هو أن ترى الناس تمشي أو تستخدم المواصلات العامة، وعدد السيارات الخاصة قليلة جداً بالمقارنة مع معظم دول العالم. سمعت أن تملك سيارة في سنغافورة أمر معقد نوعاً ما، فعليك أن تدفع ١٠,٠٠٠ دولار فقط للحصول على رخصة تمكنك من تملك سيارة، ومن ثم عندما تشتري السيارة تجد أن سعرها ضعف سعر السوق بسبب الجمارك التي تهدف للحد من تملك السيارات، ضف إلى ذلك ارتفاع سعر مواقف السيارات في المنازل والشركات، وكل هذه الأمور تدفع بالكثير للاكتفاء بالمشي واستخدام المواصلات العامة.

– تخطيط المدينة بالفعل راقي جداً، فشعار المدينة هو “City in a Garden” أي مدينة داخل حديقة، وهم بالفعل استطاعوا تحقيق هذه الرؤية. فبالإضافة إلى أن طبيعة المدينة كانت مساعدة بشكل كبير، فالجو العام استوائي مليء بالأشجار، ولكن من قام بتخطيط المدينة اهتم بشكل كبير في زرع الحدائق الطبيعية وملاعب كرة القدم والأماكن العامة التي تخدم الفنون والعلوم والاستراحات والمتاحف والمماشي في كل أنحاء المدينة. فبينما كنت أمشي بين أبراج عقارية عملاقة وجدت مساحة شاسعة مخصصة للملاعب الرياضية في وسط المدينة، ومرة أخرى وجدت منطقة مخصصة لإقامة الفعالية الفنية. أيضاً المدينة بالكامل كانت تحتوي على أماكن خاصة بالركض، وفي كل الأوقات كنت أجد ناس تركض بالرغم من شدة حرارة الجو. كنت أستغرب من وجود أماكن عامة شكلها جميل جداً وتصميمها حديث متوفرة لأهل المدينة والزوار، فتسألت من الذي أنفق هذه الأموال لبناء هذه المرافق التي لا تحقق أي أرباح أو دخل للحكومة؟ هل كان لهم هدف من وراء بناءها غير بناء بيئة اجتماعية تخدم المواطن والزائر للبلد؟ أخيراً، من أفضل الأماكن التي زرتها هو الحدائق المغلقة، وهي عبارة عن مبايئ زجاجية عملاقة يفوق حجمها الملاعب الرياضية المغلقة، تحتوي على حدائق طبيعية وشلالات صناعية وهي مكيفة وفيها متاحف وبرامج تثقيفية لأهمية الحفاظ على البيئة.

– بالنسبة للجانب الاجتماعي والثقافي، فقد وجدت أن أهل سنغافورة هم خليط من الأجناس، الغالبية صينين وبعدهم أعتقد الهنود والماليزيين، ومن ثم هناك خليط عالي من جنسيات مختلفة، يمكن تشبيهها بمدينة دبي بشكل كبير، حيث ان أسواق العمل بها استقطبت الكفاءات من كل أنحاء العالم. للأسف، شعرت بشكل كبير أن الناس أشبه بالأجهزة الآلية، فبالرغم من كل هذه الإيجابيات، لم أجد أن للحياة هناك مذاق مميز أو تاريخ أو حضارة، كل شيء جديد وجذاب، لكن الجانب الاجتماعي مفرغ من القيمة الحقيقية للحياة. اهتمام الناسب المظاهر عالي جداً، ويبدو أن الحياة ترتكز بشكل كبير على ٤ محاور: العمل، الأكل، التسوق، والرياضة. عدد المطاعم وإقبال الناس عليها مخيف جداً، وقد أخبرني أحد أصدقائي هناك أن معظم الناس تأكل في المطاعم بشكل يومي وليس في المنزل. المولات ومراكز التسوق منتشرة والماركات العالمية مسيطرة على الموقف، والأسعار عالية، ولكن الكل يشتري. مستوى النظام عالي جداً، الكل يتبع التعليمات ويحترمها ويسير دون أدنى توجيه من أحد. لم أرى أي وجود للشرطة في أي مكان، وكنت أحاول جاهداً أن أرى شرطي أو سيارة شرطة لكن خلال زيارتي لم أصادف شرطياً واحداً إطلاقاً باستثناء المناطق الخاضعة لرقابة الجوازات مثل المطار ومكان آخر سأتحدث عنه لاحقاً. مستوى التدخين في المدينة قليل جداً، أو ربما الناس لا تدخل في الأماكن العامة؟ الكل يستخدم الهواتف المحمولة بكثافة، لدرجة أني وجدت لوحات تطلب من الناس التوقف عن النظر إلى الشاشة ومراقبة الطريق أمامهم منعاً للاصطدام بالغير 🙂 أخيراً، وجدت أنهم يستخدمون التكييف بنفس درجة الاستخدام في دول الخليج العربي والتي عادة ما كانت تضايقني وكنت اشعر بأنه بالتأكيد أن هناك طريقة أفضل لتكييف المناطق العامة مع الحفاظ على الطاقة الكهربائية والبيئة، ولكني وجدت نفس الممارسات في سنغافورة.

– من سلبيات المدينة الواضحة هو انتشار الدعارة وربما قانونيتها، فمع دخول المساء تنتشر العاهرات في شوارع المدينة لتشوة كل ما تم تحقيقة من بوادر التحظر في الصباح. أيضاً، سمعت أن أهم معالم المدينة هو كازينو مخصص للقمار لا يدخله سواء السياح ويمنع عن أهل سنغافورة، فقررت دخوله، ووجدت بالفعل قوات أمنية تفحص الجوازات قبل السماح للزائر بدخول مبنى عملاق جداً. عندما دخلت شاهدت منظر بشع جداً للجانب الأخر من المدينة، كراسي كثيرة أشبه بالبورصات العالمية يجلس عليها رجال ونساء غالبيتهم من كبار السن ويبدو عليهم أنهم إما سياح أو مدمنين للقمار، وأمامهم موظفين الكازينو يتعاملون معهم بمنتهى البرود. الوجوه كانت عابسة وشعرت بأن هذا المبنى عبارة عن شفاط كبير يسحب فلوس هؤلاء المنقوم عليهم، ولكن بين الوهلة والأخرى كنت أسمع صيحة فرح لأحدهم عندما يحقق فوز مؤقت عادة ما يتلاشى مع مواصلاته للعب في الكازينو. الغريب أني عندما دخلت وجدت لوحة تحذر من إدمان القمار وعليها رقم هاتف لطلب المساعدة في حالة وصلت إلى مرحلة الإدمان 🙂 أيضاً، لاحظت أن المبنى كان خالي من النوافذ والساعات ولكن إضاءته ساطعة، وأعتقد ان السبب هو إيهام الزوار بأن الوقت لا يزال مبكراً وان الظلام لم يدخل بعد. أيضاً كان هناك ماكينات كابتشينو مجانية موزعة في كل أنحاء الكازينو. قضيت ١٠ دقائق أتفحص المكان وأعددت لنفسي كوباً ساخناً من القهوة المجانية وحمدت الله على نعمة الإسلام وغادرت المكان البائس.

 

 

4 تعليقات على “مقتطفات من سنغافورة”

  1. شكرا لك أخى عماد على سرد تفاصيل هذه الرحلة
    نحن قادرون على بناء مثل هذه المدن ولكن هل يحافظ المواطن العربى هل مدينة أن أصبحت بهذا الشكل ؟
    أتمنى لك التوفيق دائما بأذن الله

  2. أنت مُميز،طرحك،كتابتك،مشاعرك .. أخي عماد أحببتك في الله دون أن اراك من كتاباتك المُميزة دائمًا ! الرياديون في العالم العربي أفضل من الرياديون في الغرب أتعلم لماذا ؟ لان سيبقى فينا الخير،رغم كل الأسى وكل الآلم وكل الصعوبات والحواجز والعوائق،ففينا أمثالك .
    بارك الله بك ولك،وارجو لك التوفيق في الدارين.
    محبتي،
    هيثم .

  3. اخي الكريم شكرا جزيلا على سردك ووصفك لجمهورية سنغافورة … حيث انه قبل عام تقريبا تم ترشيحي من قبل المؤسسة التي اعمل بها وكانت هذه الدورة في سنغافورة في معهد الخدمة المدنية ممولة من قبل الحكومة السنغافورية .. وكانت اول دورة تدريبية لي على مستوى العالم وانا الوحيد العربي المشارك بتلك الدورة واستفدت كثيرا منها .. وفعلا اندهشت كثيرا من المناظر الرائعة والهندسة التي رسمت بها تلك البلد ..ولكن بالنهاية اتفق معك (الحمد لله على نعمة الاسلام) …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *