الوجه الآخر للقصة الجميلة

أعتقد أننا تحدثنا بما فيه الكفاية عن أهمية ريادة الأعمال وإيجابيتها وأنها ستكون أحد أهم عوامل التطور الاقتصادي للدول العربية وأحد الحلول الرئيسية لمشكلة البطالة. ومع كثرة المؤتمرات والمحاضرات التي تحث الشباب على ريادة الأعمال، وزيادة التطبيل والحشد والتشجيع (الذي لا زلت أظن أننا في أمس الحاجة له)، رأيت أن أسلط الضوء اليوم على الوجه الآخر لريادة الأعمال الذي لا نسمع أحد يتحدث عنه. ربما لم يتحدث أحد عن الوجه الآخر لريادة الأعمال لكي تبقى الصورة إيجابية ولكي ينجذب إليها أكبر عدد من الشباب ومن ثم يكتشف شاب الوجه الآخر بنفسه، وربما لم يتحدث أحد عن الوجه السلبي لريادة الأعمال لأن معظم من يتحدث عن ريادة الأعمال لم يكن في يوم من الأيام رائد أعمال مر بتجارب بدء مشروع، لهذا فهو لا يعرف أن هناك وجه آخر للقصة الجميلة. 

البعض يظن بأن صعوبة تأسيس المشاريع الريادية تتشكل في الحصول على التمويل، وعندما يتم تأمين الاستثمار تبدأ الرحلة الممتعة من حرية في ساعات العمل، ومكاتب جميلة ملونة، وألعاب وبالونات واحتفالات تملئ مكتب الشركة، ولحظات سعيدة يعيشها فريق العمل معاً. وقد تكون هذه الظواهر جزء من القصة، ولكن الحقيقة أن تجربة ريادة الأعمال كانت بالنسبة لي على الأقل من أكبر التحديات التي لازلت أمر بها حتى الآن.

لا يمكن المقارنة بين راحة بال الموظف والقلق العميق الذي يعيشه رائد الأعمال كل يوم، فهناك كمية من المصاعب المضمون مواجهتها إبتداءاً من الحصول على تمويل، وتطوير المنتج، والتوظيف، وإقناع العملاء، وإدارة موارد الشركة المالية، وتحقيق الأرباح، والقتال المستميت للابتعاد عن الإفلاس الذي يهدد الشركة كل يوم. وهذه كلها تحديات متوقعة يدركها كل من هو مقبل على هذه التجربة، ولكن الحقيقة أن هناك مصاعب نفسية قد لا تخطر على البال وقلما يتم نقاشها، وهذه الضغوط النفسية قد تدفع رائد الأعمال أحياناً إلى الاستسلام.

قد نسمع أحياناً عن أهمية التوفيق بين العمل والحياة (Work-Life Balance) والحقيقة أن أي شخص يريد بناء شركة طموحة وغير تقليدية يجب أن يدرك أن هذا المفهوم لا ينطبق على رائد الأعمال نهائياً، فلكي تحقق النجاح المنشود توقع أن تضحي بكل غالي ونفيس من أجل نجاح شركتك، وقد يكون أهم وأغلى ما تضحي به هو وقتك وعلاقاتك الاجتماعية.

في البداية قد يكون الأمر سهلاً، ولكن بعد مرور سنة أو سنتين تبدأ هذه التضحيات بالتحول إلى ضغوط نفسية عميقة، فعندما تجد نفسك منهمكاً في مشروعك غارقاً في تفاصيله، تكتشف بأنك أصبحت لا تقضي أي وقت مع أصدقائك، وأن علاقاتك الاجتماعية والعائلية أصبحت في وضع سيء جداً، وربما يصل بك الأمر إلى التقصير في واجباتك الدينية من كثر انغماسك في تحدي النجاح. لا أخفي عليكم أني عانيت ولا زلت أعاني من الكثير من هذه التحديات، وقد وصلت إلى نقطة وقوف وتفكر عندما وجدت أن العمل لم يكتفي بـ ١٠ أو ١٢ ساعة من وقتي كل يوم، بل أصبح يلاحقني إلى أحلامي ووقت نومي!

أحياناً الحماس هو ما يشغلني، وأحياناً الخوف  من المنافسين، وأحياناً المشاكل مع العملاء وفريق العمل، ولأن طموحي لمشروعي كبير، فحتى لو اختفت كل هذه المشاكل، سيبقى بالي مشغولاً في كيفية التحرك بسرعة  لكي نحقق أكبر نجاح ولكي نتوسع إلى أسواق أخرى. وكل هذه المخاوف تدفعني إلى التضحية بشكل أكبر وإعطاء المشروع المزيد من الوقت والجهد ولا كنه لا يكتفي أبداً، فدائماً هناك المزيد من العمل. حاولت مؤخراً البحث عن نقطة تعادل أستطيع من خلالها الوزن بين العمل على المشروع وبين بقية اهتماماتي في الحياة، لكني سرعان ما أدركت بأني باختياري لترك الوظيفة وتفرغي لمثل هذا المشروع الطموح فقد التزمت بتضحية غير مسبوقة كثمن لتحقيق النجاح المنشود. لم أفكر يوماً بالتراجع والعودة إلى حياة الوظيفة لأنها بالفعل لا تناسبني، ولكني فكرت مليئاً في تغيير رؤية المشروع من مشروع ريادي طموح إلى مجرد مشروع عادي أعطيه مقدار معين ومعقول من الوقت والجهد واكتفي، لكني دائماً أتذكر هدفي في بناء قصة نجاح تلهم الشباب من بعدي، ولهذا أقرر مواصلة المشوار على مضض مستبشراً بأن العمر الافتراضي لفترة بناء مثل هذه المشاريع لا يتجاوز ٣ إلى ٥ سنوات.

حديثي اليوم لا يهدف لتثبيط همم الشباب المقبلين على ريادة الأعمال، وإنما هو محاولة لإكمال صورة تم رسم نصفها وتم تجاهل النصف الآخر. أعتقد أن على كل شخص مقبل على مثل هذه التجربة أن يفكر ملياً في أهدافه ودوافعه. شخصياً، أجد نفسي مقتنع بأني أتخذت القرار السليم، وعلى الرغم من كل هذه الضغوط أجد متعة منقطعة النظير ولا استطيع أن أفهم كيف صبرت على السنين القصيرة التي قضيتها كموظف في شركات لم تتحدى إمكانياتي بأي شكل يذكر. إذاً، قبل أن تتنازل عن وظيفتك المريحة، وجدول عملك القصير، وساعات الفراغ الطويلة التي يمكنك استخدامها كما يحلو لك، وعلاقاتك الاجتماعية، وراحة بالك، فكر ملياً في الوجه الآخر للقصة الجميلة.

13 تعليقا على “الوجه الآخر للقصة الجميلة”

  1. هو الوجه الآخر فعلاً! من الجيد مشاركة هذا الجانب حتى لا يصدم من يود بدء عمل ريادي بهذا الجانب.

    الحقيقة هي أن هذا الألم الناتج عن التحدي جزء لا ينفك عن تجربة بدء شركة ريادية تغير العالم أو جزء منه. هي كألآلام المصاحبة للتمارين الرياضية. إذا لم تؤلمك عضلاتك حين التمرين، فغالبا أنك لم تتحسن.

    بالتوفيق للجميع والشكر لك عماد على مشاركة تجربتك

  2. اكتر حاجة بتعجبني في حضرتك استاذ عماد انك بتتكلم في نقاط هامة وحرجة لم يتطرق اليها احد من قبلك.
    والله اتمنى لك من كل قلبي ان تحقق ما تصبو اليه قريبا، وأرجو ان تخفف الضغوط النفسية عنك قليلا وتذكر ان متعة التجربة في الرحلة نفسها وكل خطوة فيها لذلك حتي لو لم تصل الي النهاية المنشودة فيكفيك شرف المحاولة وانها خطوة علي طريق النجاح ان شاء الله.

  3. وعليكم السلام
    فعلا هذه هي تكملة الصورة التي كثر التسويق لها، خصوصا مع من يتابع أفلام قصص العصاميين.
    شكرا لك على التوضيح، رغم أنني أعيشه إلا أنه من الأحسن أن أقرأ عنه في حياة الآخرين. شكرا لك مرة أخرى.

  4. اولا اهنئك على روح الكفاح، اذ أنني اشاركك نفس القصة بكثير من الحذافير..
    كما قلت، لسنا هنا لاحباط الهمم، فلو علم الموظفون المتعة التي نستشعرها كل ثانية من الليالي التي نقضيها كادحين لقاتلونا عليها شر قتال..

  5. مهما بدا وجه القمر ناصعاً جميلاً في ليلة صافية .. هناك وجه مظلم آخر لا تعرف عنه شيء ولا يمكنك أن تنكر وجوده أيضاً .. هذه هي الفروقات بكل رمزية بين الريادة و الوظيفة

  6. هذا الجانب مهم جداً لرائد الأعمال
    خصوصاً الجانب النفسي والإجتماعي
    نتمنى من الرواد الذين تجاوزا هذه المرحلة أو مازالوا بها، الكتابة عنها بشكل مفصل

  7. احب اقولك مع كل مقال تكتبه يزيد احترامي لك و اعجابي بمثابرتك.. و احببت هذا المقال جدا.. و احب اقول لك احمد الله علي الحياة التي تعيشها… علي الاقل عندك هدف محدد. وتسعي من اجله.. اهناك الكثير من الناس التي تعيش بلاهدف بل الملايين.. و هناك الكثير من يتعب في هذه الحياة و لكن بلا هدف محدد فتعبهم بيروح هباء.. و كمان احنا ما اتولدنا في هذه الحياة عشان ننبسط في حياتنا.. هتاك هدف من خلقنا… و انت تسعي وراء هذا الهدف… انت ستعرف بما ترد علي رب العالمين حين يسالك ماذا عملت لاصلاح الارض…انت محظوظ لانك تعرف الاجابة. …ايضا انت تصنع بصمتك في العالم… انت تمشي علي الطريق الصحيح فلا تترك اي شي يثبط همتك ابدا… ثبتك الله علي هذا الطريق و اسعدك فيه.

  8. لم يقل احد انها سهلة يا مسعودى، والسأم والملل والإنهاك الذى يعتريك من المفترض انه عادى وطبيعى. فأنت تحيا حياتك كلها بريادية ومغامرة وشغف مما لا يصح معها أنصاف الحلول. أنت أسست هذا المشروع لهدف أكثر من ربح المال؛ فألتزم بأهدافك والا انقلبت من ريادى الى تاجر عادى. وعلى قدر أهل العزم تأت العزائم

  9. ضريبة يدفعها رائد الأعمال مقابل عمل ما يحب .

    تكلمت عن تجربتك بشكل عام و محتاجين المزيد من القصص في نفس الموضوع ، هل هناك تحديات وقصص لأوقات عصيبة يمكن مشاركتها؟

    ماهو سبب إستمرارك رغب كل الظروف؟
    ماذا عن الشغف و الدافع و المحرك الداخلي للإستمرار و كيف تحفز نفسك للمواصلة؟

اترك رداً على أمين مصباح إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *