رأينا استثمار البنيان، أين استثمار العقول؟

بعد أن أدركنا أن الموارد النفطية قاربت أن تنفذ، أو على الأقل تناقصت كميتها، بدأنا في عملية تسمى بالـ “Diversification” – التنويع. أعتقد أن مدينة دبي كانت الأولى في انتهاج هذا التوجه، فبدأت المدينة بتعزيز أهميتها عبر تطوير ميناءها والاهتمام بالسياحة والتجارة والترفية. العديد من المدن والدول العربية لاحظت نجاح دبي وبدأت بإتباع نفس الخطى، واليوم أصبح السباق والتطاول في البنيان بين هذه المدن هو مقياس النجاح والتطور.

أصبح الشرق الأوسط مقر لأرقام قياسية، وكل يوم نسمع عن مشروع عملاق جديد. أصبح لدينا أطول مبنى في العالم، وأكبر منتجع سياحي، وأكبر فندق، وأكبر، وأصغر، وأعرض، وأطول.. إلخ. سؤالي اليوم، هل النجاح الحقيقي يكمن في التطاول في البنيان وتنفيذ المشاريع العملاقة؟ دائماً أسمع عبارات رنانة عن رؤية مميزة لقياداتنا العربية، ولكن قلما أسمع عن رؤية حقيقة تهتم بمستوى الشعوب العربية فكرياً وعلمياً.

إن النجاحات التي وصل إليها الغرب والشرق الأقصى لم تأتي من ميزانية بترولية عملاقة تم إنفاقها على مشاريع لإبهار العالم بها، وإنما كانت نتاج كد فكري وبحث علمي عميق. بإستطاعت أي شخص عادي أن يقوم بإنفاق مثل هذه الميزانية ويبهر بها الجميع، فيمكنه شراء أكبر الشركات، وبناء أضخم المدن، وتوظيف أذكى الأشخاص، وخلال سنين قليلة يكون قد أنجز ما استغرقت الأمم الأخرى عقود بل قرون لإنجازه.

إذاً، يجب علينا التوقف.. التفكير .. وإتخاذ القرار المناسب. لا بأس فيما قد تم إنفاقه، ونجاحاتنا ليست نتيجة قرارات عشوائية، ولكن يجب التركيز على أساس النجاح – إثراء العقول. أنا أعلن عدائي لمشاريع تسهيل التوظيف للمواطن عن طريق فرض نسبة معينة من الوظائف أن تكون لأهل البلد. أعلم بأن العديد قد يعارضني ويقول بأن الأحقية والأولوية لهم، ولكني أؤكد لكم أن نتيجة هذه النسب المفروضة على الشركات هو هدم روح التحدي لدى الشباب وبالتالي تدمير طموحاتهم.

أعشق نظرية – الحاجة أم الاختراع – لأنها كانت تدفعني دائماً للجد والاجتهاد. لدي العديد من الزملاء من دول الخليج، وبناءاً على تخرجي بنجاح وسرعة من النظام الجامعي يطلب الكثير منهم مني المساعدة في اختيار التخصص. وما إن أبدأ في عرض التخصصات المتوفرة في الجامعات المحيطة بمدينتنا ألاحظ بأن الأخ الكريم يبحث عن التخصص الأبسط والأسرع وعن الجامعات التي يمكن توفير التساهلات فيها. أحاول إقناعهم بأهمية العلم وأهمية التخصصات العلمية مثل الطب والهندسة، ولكن غالبيتهم يتجه إلى إدارة الأعمال. لا أستطيع أن ألومهم، فدافعي الرئيسي للاجتهاد في مجالي يرجع إلى علمي بواقع الحال في بلدي – اليمن -، فلو أني عدت بالقليل من العلم وشهادة ورقية لن استطيع الحصول على شيء. أما زملائي فالنسب المضمونة تثبط روح التحدي لديهم، وتمنحهم تأشيرة مجانية إلى مقعد المدير في هذه الشركة وتلك.

يجب تغيير هذا النظام، ومن ثم يجب لفت الإنتباه إلى أهمية التخصصات العلمية. أعلم بأن كل شاب يريد مقعد المدير، لكن إدارة بدون خبرة لن تجدي. يجب على حكوماتنا أن تغير معايير تقيمها لاهتمامها بشعوبها. ضمان الوظائف لن يجدي، لأن النتجية كادر غير مؤهل علمياً وغير قادر على المنافسة في النطاق الدولي. السوق الدولي عالي التنافس، ولا يوجد فيه مجال للتساهل، الأذكى هو الأنجح. لقد حلت علينا العديد من النعم، فلنحسن التصرف فيها ولنستثمر في تغذية عقول أبناء هذه الأمة. الشهرة تزول، والأموال تنفذ، والأرقام القياسية تتحطم، ولكن العقول تزداد خبرة مع الزمن، وتكون مدرسة لأجيال متتالية.

7 تعليقات على “رأينا استثمار البنيان، أين استثمار العقول؟”

  1. كلامك صحيح ميه في الميه
    نحن نرى هذه الايام استثمار دولة مثل الهند في التعليم كيف بدأ يثمر رفاهية وزيادة في طلب الهنود للعمل في الشركات العالمية

  2. طبعاً أخ فتحي،

    نهضة الهند مبنية على نظامهم التعليمي القوي واهتمام شبابهم بالتخصصات العلمية. أفضل الأطباء في العالم هنود، والطلب عليهم متزايد في الدول الغربية.

    وحالياً، مدينة بانجلور تحظى بشهرة عالمية في مجال البرمجة وهندسة الكمبيوتر.

  3. أنا أيضاً أتفق معك , و أحب أن أضيف أن الأولوية لابد أن تكون للأصلح و الأكفأ و ليس لأهل البلد أو غيرهم, و لو لاحظنا فإن أمريكا تستقدم العلماء من جميع أنحاء العالم و هذا هو سبب تقدمها في كل المجالات.

    بالنسبة للاستثمار العلمي فإنه لابد أن يكون محكماً و مدروساً, لفت انتباهي أثناء تصفحي لموقع احدى كليات الصيدلة في ألمانيا أن أقسام الكلية موزععة على هيئة مجموعات عمل تقوم كل منها بأبحاث في مجال معين يختلف عن المجال التي تبحث فيه المجموعات الأخرى و على الطالب الذي يريد الحصول على الدكتوراه مثلا أن ينضم إلى احدى هذه المجموعات و يعمل معها في نفس المجال. و استنتجت من هذا أن عملية البحث العلمي هي عملية موجهة و مدروسة تهدف إلى تطوير المجتمع و الصناعة و غيرها بما يتطلبه سوق العمل. و هذا النظام بعيد تمام البعد عن النظام العقيم المتبع في أبحاث الماجستير و الدكتوراه في الوطن العربي.
    و سأقتبس من كلام الشيخ صالح كامل رئيس غرفة التجارة الإسلامية حيث قال أنه لابد أن تكون هناك دراسة سنوية لسوق العمل لمعرفة احتياجات الدولة في شتى المجالات و من ثم توجيه خريجي الثانوية إلى دراسة المجالات التي بها نقص و هي كثيرة و هذا سيساعد الطلاب على اختيار الكلية المناسبة و كذلك سيوفر فرص عمل أكبر لهم عند تخرجهم.

  4. أخي محمد بدر،

    لقد قمت بمناقشة نقطة مهمة تتعلق بنظامنا التعليمي وهي مدى تفاعله مع سوق العمل بصورة ديناميكية. أعطيك مثال عن كيفية هذا التفاعل في معظم الجامعات الأمريكية. صحيح بأن طالب الدكتوراة يقوم بالأبحاث في تخصصه وفي المجال الذي يتناسب مع رغباته وطموحاته العلمية، ولكن في العديد من الأوقات يتأثر الطالب بالبحوث التي يقوم بها مدرسيه ويختار مجال مشابه أو مقارب لها. وعادة ما يقوم بروفوسيورات الجامعة بالبحث على حسب الطلبات التي تصلهم من سوق العمل. فالمكاتب الحكومية المحتاجة لدراسات جدوى لمشروع الحكومة الإلكترونية تقدم طلب للجامعات المتخصصة في ذلك المجال، وشركات الأسلحة تقدم طلب دراسة تفاعل بعض المواد الكيماوية في الجامعات المتفوقة في ذلك المجال، والبنوك المحتاجة لفهم أسلوب تفكير عملاءه وكيفية اتخاذهم للقرار تتواصل مع الجامعات المتمكنة من علم النفس… إلخ. وفي نهاية المطاف، تكون نتيجة الأبحاث العلمية مطابقة لمتطلبات السوق، وتحظى الأبحاث بالتشجيع والاهتمام المطلوب.

    شكراً على تعليقك.

  5. أخي عماد,
    أقترح أن يقوم طلبة الماجستير و الدكتوراه بمحاولة اتباع هذا الأسلوب في اختيار أبحاثهم بصورة فردية مادام هذا الترابط بين سوق العمل و الجامعات غير متوفر في الوطن العربي, ممكن لكل طالب عمل دراسة لسوق العمل و احتياجاته في مجاله و من ثم عمل بحث الماجستير و الدكتوراه على أساس الدراسة التي قام بها, شكرا

  6. أتفق معك تماماً من أول حرف حتى أخر نقطة في المساق. و إني أيضاً من أتباع ” الحاجة أم الاختراع” لكن في مجتمعنا تتصنف الحاجة في سلم حاجاتنا اليومية و الحيوية. -عموماً في جميـع الحالات و المواضيع و الأفكار المطروحة في هذه المدونة الرائعة التي فعلا تستحق المتابعة والنشر-،كيف نطلب من الجياع أن تفكر؟ كيف تطلب من العراة الإبداع و الإبتكار؟ أعلم أن أغلب تعليقاتي لا توحي إلا باليأس و الشكوى، و لكني أعني ما أقوله و أشكوه من آفة الجوع و الفساد.
    كيف بالجسد الجائع أن يفكر بغير إشباع جوعه؟
    وقع علي سؤال في أحد الأيام من دكتورة استراليا عن حالة نيوتن عندما اكتشف الجاذبية بعد رؤيته للتفاحة التي سقطت على الأرض بعد أن كانت متدلية في أعلى الشجرة. فكان سؤالها، صف لي حالة نيوتن وقتها، فكانت اجابتي سريعة انه كان شبعاناً أو ليس بجائع، اندهشت و قالت كيف استنتجت هذا؟ فقلت لها أنه ببساطة إذا كان جائعاً لالتقط التفاحة و حشا بها جوفه الجائع، أما وأنه يعاني من التخمة أو ليس بجائع بأمسك بالتفاحة و سأل نفسه لماذا سقطت هذه من أعلى هذه؟!
    عموماً، أنا أتفق معك يا أخ عماد في الدعم الفكري الفقير و الدعم البنياني الغني في أرجائنا.

    محبتي و شكري يا أخي عماد

    عدنان السقاف

  7. أضحتكي يا عدنان،

    بالفعل الظروف الصعبة قد تقلل من أهمية وأولوية الإبداع والاختراع، ولكن مبدأ الحاجة أم الاختراع يعود إلينا هنا. على أي حال، أشكرك على عرض سؤال نيوتن والتفاحة علينا، بالفعل الإجابة مضحكة ولكنها تشكو واقعنا الراهن.

    تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *